الشرق الأوسطتقدير الموقفعاجل

الصراعات الجيوسياسية في كونفدرالية دول الساحل: تقييم استراتيجي لدور الفاعلين الدوليين

اعداد : محمود سامح همام –  باحث سياسي متخصص في الشؤون الإفريقية

  • المركز الديمقراطي العربي

 

يُعد النفوذ الأجنبي في كونفدرالية دول الساحل موضوعاً معقداً ومتشابكاً، تتداخل فيه المصالح السياسية، الاقتصادية، والعسكرية للقوى الكبرى والإقليمية. تضم هذه المنطقة الشاسعة، التي تمتد عبر الصحراء الكبرى، دولاً تواجه تحديات أمنية وتنموية كبيرة مثل الإرهاب، الفقر، وعدم الاستقرار السياسي. نتيجة لهذه التحديات، أصبحت دول الساحل ساحة للصراعات الجيوسياسية، حيث تتنافس القوى الأجنبية على تعزيز نفوذها من خلال دعم الحكومات المحلية، التدخلات العسكرية، أو تقديم المساعدات التنموية والاقتصادية.

يهدف هذا التقرير إلى دراسة النفوذ الأجنبي في دول الساحل، مع تحليل دور أبرز الفاعلين الدوليين مثل فرنسا، الولايات المتحدة، روسيا، الصين، أوكرانيا، ألمانيا، وتركيا، بالإضافة إلى الدور المتنامي للمنظمات الدولية والإقليمية. كما سيتم تسليط الضوء على تأثير هذا النفوذ على الأمن والاستقرار في المنطقة، ومستقبل التنمية السياسية والاقتصادية لدول الساحل.

في هذا السياق، كانت النيجر تُعتبر لفترة طويلة شريكاً موثوقاً لأوروبا والولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب، إلا أن انقلاباً عسكرياً في العام الماضي غيّر المشهد السياسي، وهو واحد من عدة انقلابات شهدتها المنطقة مؤخراً. يسعى التقرير إلى استعراض أبرز التحولات والتطورات المتعلقة بالنفوذ الأجنبي في كونفدرالية دول الساحل من خلال المحاور التالية:

  1. أولًا : كونفدرالية دول الساحل : الهيكل والديناميات والأهداف
  2. ثانيًا : الخلفية التاريخية للنفوذ الأجنبي : الاستعمار والتأثيرات الأوروبية السابقة
  3. ثالثًا : انعكاسات نشاة كونفدرالية دول الساحل على نفوذ الدول الأجنبية

أولًا : كونفدرالية دول الساحل : الهيكل والأهداف والتحديثات

تشكل “كونفدرالية دول الساحل” تحالفاً إقليمياً يهدف إلى التصدي للتحديات المشتركة التي تواجه دول المنطقة، مثل الإرهاب، التغيرات المناخية، والتدهور الاقتصادي. يضم هذا التحالف دولاً ذات سمات جغرافية وأمنية واقتصادية متشابهة، مما يجعل التعاون بينها ضرورة لتحقيق الاستقرار والتقدم. جاء تأسيس الكونفدرالية استجابة للتهديدات الأمنية المتزايدة التي تهدد استقرار المنطقة، بالإضافة إلى سعيها لتعزيز التنمية المستدامة وتحسين مستوى المعيشة لسكانها. (1)

تركز الكونفدرالية على تبني استراتيجيات شاملة لمكافحة الإرهاب، تعزيز التكامل الاقتصادي، وتطوير بنية تحتية إقليمية قوية. كما تلعب دوراً حيوياً في بناء علاقات دولية مع الفاعلين العالميين لتعزيز الاستثمارات وتقديم المساعدات التنموية. تهدف هذه الجهود إلى تحقيق الأمن والتنمية، مع الحفاظ على سيادة دول المنطقة وتوازنها السياسي.

هيكل التحالف

يعدّ حلف دول الساحل أول خطوة نحو تحقيق مشروع “كونفدرالية دول الساحل” الذي وضعته الدول الثلاث (بوركينا فاسو، النيجر، ومالي) منذ سبتمبر 2023. تأسس الحلف على مبدأ “إرساء هندسة دفاعية جماعية ومساعدة متبادلة بين الأطراف”، وكان هدفه الأول والأكثر إلحاحًا هو ردع ومنع التدخل العسكري الذي هددت به المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس) وفرنسا للإطاحة بالمجلس العسكري في النيجر، وبالإطلاع على الاتفاقية المنشئة للكونفدرالية يكشف تركيزها على الجانب البنيوي للتعاون، حيث وضعت هيكلية مؤسسية جديدة تتمثل في: هيئة رؤساء الدول، ومجلس وزراء الكونفدرالية، والدورات الكونفدرالية للبرلمانات. استلهمت دول الساحل هذه الهيكلية من ميثاق ليبتاكو-غورما، وسعت إلى تعزيز تعاونها ومأسسته، وتبدأ الهيكلية بهيئة رؤساء دول الكونفدرالية، التي تعد أعلى سلطة، ومهمتها وضع السياسات الكونفدرالية في مجالات الأمن والدفاع والدبلوماسية والتنمية. يتم تداول رئاسة الهيئة بين رؤساء الدول الثلاث، بحيث يستمر كل رئيس في منصبه لمدة عام، وتُتخذ القرارات بالإجماع. أما مجلس وزراء الكونفدرالية، فيضم وزراء الخارجية والدفاع والأمن من الدول الأعضاء، إلى جانب الوزراء المسؤولين عن التنسيق في قضايا التنمية، ويقدم اقتراحات للهيئة الرئاسية ضمن مجالات اختصاصه، وفيما يتعلق بمجلس برلمانات الكونفدرالية، نصت الاتفاقية على أن يتكون من أعضاء يُسمون “النواب الكونفدراليين” يتم اختيارهم من برلمانات الدول الأعضاء، مع ضمان تمثيل متساوٍ للدول الثلاث في هذا المجلس المستحدث. (2)

أهداف التحالف

تحولت منطقة الساحل في أفريقيا في السنوات الأخيرة إلى بؤرة لعدم الاستقرار، حيث تعاني من الانقلابات العسكرية، والعنف المتطرف، وانتشار الفقر، مما أسفر عن أزمة إنسانية وأضعف الأمن الإقليمي. وتسعى الدول الثلاث (بوركينا فاسو والنيجر ومالي) من خلال هذا التحالف إلى تحقيق عدد من الأهداف تتمثل فيما يلي:

  • تعزيز التعاون الأمني : يمكن أن يعزز التعاون الأمني ​​بين الدول الأعضاء في مجال تبادل المعلومات الاستخباراتية والعمليات العسكرية المشتركة وأمن الحدود. وقد يؤدي هذا إلى استجابة أكثر تنسيقا للتهديد الذي تشكله الجماعات المتطرفة، بناء قدرات عسكرية وطنية وإقليمية قادرة على التصدي للتهديدات الداخلية والخارجية، وفضلاً عن ذلك يمنكهم من تطوير أنظمة دفاعية مشتركة وتأمين الحدود بين الدول للحد من تهريب الأسلحة والجريمة المنظمة.
  • نموذج للحكم أكثر مرونة:  قد يكون نظام الحكم في أفريقيا محاولة لإنشاء نموذج حكم يُنظر إليه على أنه أكثر استجابة لاحتياجات منطقة الساحل من الديمقراطيات المدعومة من الغرب والتي كانت قائمة منذ الاستقلال. ومع ذلك، فإن نجاح هذا النموذج سوف يعتمد على التزام الدول الأعضاء بالحكم الرشيد والشفافية ومعالجة الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار.
  • مكافحة الإرهاب والتطرف العنيف : من خلال توحيد الجهود الإقليمية لمواجهة تهديدات الجماعات المسلحة المتطرفة مثل القاعدة وداعش، والتي تؤثر بشكل مباشر على أمن واستقرار دول الساحل، بالإضافة إلى تعزيز التعاون الأمني والعسكري بين الدول الأعضاء، من خلال تبادل المعلومات الاستخباراتية وتنفيذ عمليات مشتركة.
  • تحقيق التكامل الاقتصادي : يهدف الاتحاد أيضاً الى تعزيز التجارة البينية وتطوير بنية تحتية مشتركة لدعم التعاون الاقتصادي بين الدول الأعضاء، وعلاوة على ذلك إطلاق مشاريع تنموية تهدف إلى تحسين مستوى المعيشة والحد من الفقر، خصوصاً في المناطق الريفية المتضررة من النزاعات.(3)

التحديثات

تشهد ديناميات كونفدرالية دول الساحل تعقيدات تتأثر بعوامل داخلية وخارجية تشمل الأمن، السياسة، الاقتصاد، والعلاقات الدولية. تتكون الكونفدرالية من دول تواجه تحديات مشتركة مثل الإرهاب، انعدام الأمن الغذائي، وتدهور البيئة، لكنها تعاني أيضًا من تباينات في المصالح الوطنية والاستراتيجيات السياسية. هذه العوامل تؤدي أحيانًا إلى تعزيز التعاون بين الدول الأعضاء، وفي أوقات أخرى تخلق توترات نتيجة اختلاف الأولويات.

في إطار تعزيز التحالف بين الدول الثلاثة، أعلنت الكونفدرالية في 16 سبتمبر الماضي عن طرح جوازات سفر بيومترية جديدة لتنسيق وثائق السفر وتسهيل حركة المواطنين على مستوى العالم، كجزء من انسحابها من كتلة غرب أفريقيا لصالح تحالف جديد في المنطقة. كما أعلنت بوركينا فاسو في وقت سابق من الشهر الجاري عن إصدار جوازات سفر جديدة بدون شعار المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. إلى جانب ذلك، تخطط الكونفدرالية لإطلاق قناة معلومات مشتركة لتعزيز نشر الأخبار بشكل متناغم.

وكانت الكونفدرالية قد أعلنت في يناير الماضي عن انسحابها من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، والتي حاولت إقناعها بالعدول عن هذا القرار. وقد حذرت المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا من أن انسحاب الدول الثلاث سيؤثر سلبًا على حرية الحركة والسوق المشتركة لما يقرب من 400 مليون شخص في الكتلة الاقتصادية التي تأسست قبل 49 عامًا. (4)

ثانيًا : الخلفية التاريخية للنفوذ الأجنبي : الاستعمار والتأثيرات الأوروبية السابقة

لقد شكّل النفوذ الأجنبي عاملاً حاسماً في تشكيل التاريخ السياسي والاقتصادي لدول الساحل الإفريقي. منذ فترة الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، خضعت هذه الدول لتحولات كبيرة في بنيتها الاجتماعية والاقتصادية، حيث سعت القوى الاستعمارية إلى استغلال الموارد الطبيعية وتعزيز نفوذها السياسي في المنطقة. تركت تلك الفترة إرثًا ثقيلًا من التبعية السياسية والاقتصادية، وأثرت بشكل كبير في رسم الحدود الحالية وتشكيل الهوية الوطنية لتلك الدول. ورغم حصولها على الاستقلال، ما زالت آثار النفوذ الأجنبي تظهر جلية في السياسات المحلية والإقليمية. (5)

الاستعمار والتأثيرات الأوروبية السابقة

بدأ النفوذ الأجنبي في منطقة الساحل الإفريقي مع توسع القوى الاستعمارية الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر، حيث تنافست فرنسا وبريطانيا بشكل رئيسي للسيطرة على هذه المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية والموقع الاستراتيجي الذي يربط شمال وغرب إفريقيا. في إطار اتفاقيات استعمارية مثل مؤتمر برلين (1884-1885)، تم تقسيم مناطق الساحل بين القوى الاستعمارية، مما نتج عنه رسم حدود مصطنعة لا تراعي الانتماءات العرقية والثقافية لسكان المنطقة.

أثناء الحقبة الاستعمارية، سعت فرنسا بشكل خاص إلى تعزيز سيطرتها من خلال نظام إداري مركزي وإدماج السكان المحليين في الاقتصاد الاستعماري، الذي ركز على استخراج الموارد الطبيعية مثل الذهب، اليورانيوم، والقطن. فرضت فرنسا أيضًا نموذجًا ثقافيًا فرنكوفونيًا بهدف دمج السكان المحليين في الإمبراطورية الفرنسية. لكن هذا الاستغلال الاقتصادي والقمع السياسي أشعل حركات مقاومة شعبية واسعة، أدت إلى تصاعد حركات التحرر الوطني حتى منتصف القرن العشرين.

بعد استقلال بوركينا فاسو ومالي والنيجر في الستينيات، ورغم رحيل القوى الاستعمارية، استمرت التأثيرات الأوروبية في السيطرة على السياسات الاقتصادية والعسكرية لدول الساحل. استمرت العلاقات القوية مع فرنسا، من خلال الاتفاقيات العسكرية والاقتصادية التي أبقت الدول الإفريقية في دائرة النفوذ الفرنسي. هذا الإرث الاستعماري لا يزال يُعقد جهود دول الساحل اليوم لتحقيق سيادتها الكاملة وتقليل اعتمادها على القوى الأجنبية، وهو ما يظهر جليًا في التدخلات الأجنبية الحديثة في المنطقة. (6)

ثالثًا : نفوذ الدول الأجنبية في كونفدرالية دول الساحل في ضوء الديناميات المتلاحقة بالمنطقة

يشهد نفوذ القوى الأجنبية في دول كونفدرالية الساحل تحولات مستمرة نتيجة للتعقيدات الأمنية والسياسية التي تعصف بالمنطقة. مع تصاعد التحديات، تتنافس قوى دولية على تعزيز وجودها وتأمين مصالحها الاستراتيجية، مما يؤدي إلى تشكيل تحالفات جديدة وإعادة رسم خريطة النفوذ في المنطقة. بينما نشهد تراجع بعض الدول التي كانت تقليديًا تهيمن على المشهد، برزت قوى أخرى تسعى لتعزيز وجودها العسكري والدبلوماسي عبر دعم الأنظمة المحلية والمشاركة في جهود مكافحة الإرهاب.

في الوقت ذاته، برزت دول أخرى كلاعبين اقتصاديين رئيسيين في الكونفدرالية، حيث تسعى لاستخدام قوتها الاقتصادية من خلال مشاريع البنية التحتية والاستثمارات الضخمة لتعزيز نفوذها. في مقابل هذه التحولات، تحاول بعض دول الكونفدرالية الحفاظ على استقرار علاقاتها مع القوى المتنافسة، متبعة سياسات توازن دقيقة. تسعى هذه الدول للاستفادة من الدعم العسكري والاقتصادي الذي تقدمه القوى الكبرى، وفي الوقت نفسه، تحرص على حماية سيادتها ومنع أي قوة واحدة من السيطرة المطلقة على المنطقة. في هذا المحور، سنستعرض أحدث التغيرات في النفوذ الأجنبي في كونفدرالية دول الساحل خلال الفترة الأخيرة.

فرنسا والولايات المتحدة

  • أعلنت الخارجية الأمريكية في 24 إبريل القرار النهائي بسحب القوات الأمريكية من النيجر. ووفقًا لإعلان مشترك صدر في 19 مايو عن وزارتي الدفاع الأمريكية والنيجرية، ستكمل القوات الأمريكية انسحابها بحلول 15 سبتمبر. وستسلم هذه القوات، التي يبلغ عددها أقل قليلًا من 650 جنديًّا، المنشآت الرئيسية، بما في ذلك قاعدة باهظة الثمن للطائرات بدون طيار في مدينة أغاديز الشمالية. ويأتي ذلك عقِب إلغاء المجلس العسكري النيجري من جانب واحد اتفاقية وضع القوات لعام 2013 التي كانت هي الأساس القانوني للأنشطة العسكرية الأمريكية في البلاد القرار النهائي بسحب القوات الأمريكية من النيجرية، واستكملت القوات الأمريكية انسحابها من النيجر بحلول 15 سبتمبر. (7)
  • وبتاريخ 23 ديسمبر أكملت فرنسا سحب قواتها من النيجر بعد أن طلبت منها المجلس العسكري الجديد في البلاد، وإعلان هيئة الأركان العامة للجيش الفرنسي إن آخر الطائرات العسكرية والقوات الفرنسية غادرت النيجر بحلول الموعد النهائي الذي حددته المجلس العسكري الذي قطع العلاقات مع باريس بعد الانقلاب، وأعلنت فرنسا بالفعل في نفس الأسبوع أنها ستغلق بعثتها الدبلوماسية في النيجر “لفترة غير محددة. (8)

روسيا

استغلت روسيا سلسلة الانقلابات الأخيرة في مالي، بوركينا فاسو، والنيجر منذ 2021 لتعزيز وجودها في منطقة الساحل. ورغم أن تكتيكاتها العشوائية لمكافحة الإرهاب تفرض تكاليف باهظة على قواتها والأنظمة التي تدعمها، أصبحت روسيا الحليف الاستراتيجي الجديد لدول الساحل في حربها ضد الجماعات الإسلامية التي تنشط في جميع أنحاء هذه الدول. بفضل دعم الجيش الروسي، تمكن الجيش المالي من استعادة مدينة كيدال في شمال شرق البلاد من المتمردين في نوفمبر 2023، بالإضافة إلى استعادة مناطق أخرى. ومنذ أبريل 2024، تم تفعيل آلية تنسيق بين الجيوش الإقليمية، والعمليات جارية لتقسيم الأراضي الخاضعة لسيطرة الجماعات الإسلامية، التي تمتد من شرق مالي إلى شمال بوركينا فاسو والنيجر. (9)

إلى جانب التعاون العسكري، يتسع نطاق التعاون التجاري والاقتصادي بين روسيا ودول الساحل. فمنذ سبتمبر 2023، وقعت شركات روسية، سواء خاصة أو مملوكة للدولة، عدة اتفاقيات مع دول المنطقة في مجالات التعدين والبناء الصناعي وغيرها. تركز روسيا بشكل أساسي على الأمن الغذائي وتطوير الاقتصاد الرقمي في سياق عودتها إلى إفريقيا، كما تدعم بشكل ملحوظ قوات حفظ السلام في عدة مبادرات. إلا أن نتائج هذه الجهود تعتمد إلى حد كبير على التزام وإصرار القادة العسكريين في بوركينا فاسو، مالي، والنيجر بالدفاع عن أهدافهم الحالية. ومن المتوقع أن تتعمق العلاقات بين روسيا وأعضاء اتحاد دول الساحل.

توفر روسيا حماية للأنظمة العسكرية في منطقة الساحل مقابل الوصول إلى موارد طبيعية استراتيجية، مثل الذهب، ما يساعدها في الالتفاف على العقوبات الغربية وتمويل الحرب في أوكرانيا. استخدام المتعاقدين العسكريين الخاصين في الساحل قلل من التكاليف على الكرملين، مما مكن روسيا من تحقيق مكاسب كبيرة باستثمارات محدودة. واستفادت موسكو من البنية التحتية التي أنشأتها مجموعة فاغنر في ليبيا لتسهيل وجودها، حيث تستخدم القواعد الجوية في المناطق التي يسيطر عليها أمير الحرب الليبي خليفة حفتر كمحطات لرحلاتها العسكرية التي تنقل المعدات والأفراد بين قواعدها في سوريا ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى. (10)

الصين

على غرار روسيا، تسعى الصين إلى تقديم نفسها كبديل لحليفها التقليدي، فرنسا، في دول كونفدرالية الساحل. مستفيدة من سياسة “عدم التدخل” و”احترام السيادة”، تمكنت الصين من ترسيخ دورها كشريك أساسي لدول الساحل. تتمتع هذه الدول بثروات طبيعية هائلة مثل النفط، اليورانيوم، الغاز الطبيعي، والليثيوم، ما جعلها محط أنظار الشركات الصينية المملوكة للدولة التي تنشط في النيجر ومالي وبوركينا فاسو. على سبيل المثال، تمتلك مالي أحد أكبر احتياطيات الليثيوم عالميًا، وقد قامت شركة “جانفينج ليثيوم” الصينية باستثمارات كبيرة هناك.

إلى جانب الاستثمارات الاقتصادية، تسعى الصين أيضًا لتطوير وتعزيز صناعتها العسكرية. ورغم أن العديد من أسلحتها لم يتم اختبارها ميدانيًا بعد، فإن الصين تستغل الصراعات في منطقة الساحل لتجربة منتجاتها العسكرية. هذه التطورات تعكس بوضوح استقرار النفوذ الصيني وتوسعه في المنطقة خلال الآونة الأخيرة. (11)

ألمانيا

تُعد ألمانيا دولة ذات قيمة كبيرة في منطقة الساحل، وتتمتع بسمعة موثوقة وكفاءة في تقديم المشورة والتعاون العسكري. ومع ذلك، تواجه دول كونفدرالية الساحل رفضًا للتواجد العسكري الغربي على أراضيها. وفي هذا السياق، سحبت ألمانيا قواتها من النيجر، التي يسيطر عليها المجلس العسكري، في 30 أغسطس 2024. جاء هذا الانسحاب بعد فشل المفاوضات بين الجانبين حول استمرار تشغيل القاعدة الجوية الألمانية هناك. هذه الخطوة، التي تزامنت مع سلسلة من الانقلابات العسكرية في المنطقة، تعني أن ألمانيا لم تعد تمتلك وجودًا عسكريًا في الساحل الإفريقي.

في ظل هذا الفراغ، تدخلت روسيا كشريك رئيسي للمجالس العسكرية في المنطقة، حيث لجأ زعماء النيجر إلى موسكو للحصول على الدعم، في خطوة تروّج لتحررهم من التعاون “الإمبريالي” مع الدول الغربية. يُذكر أن برلين كانت قد سحبت قواتها من مالي في يوليو 2023، مما يعكس تراجع النفوذ العسكري الألماني في الساحل الإفريقي. (12)

ايران

ترى إيران وغيرها من معارضي النفوذ الغربي في الانقلابات التي شهدتها دول الساحل فرصة جيوسياسية لتعزيز علاقاتها في إفريقيا وعلى نطاق أوسع في الجنوب العالمي. تتمتع إيران بعلاقات متينة مع بوركينا فاسو ومالي، وهاتان العلاقتان اكتسبتا أهمية متزايدة بعد الانقلابات الأخيرة في واغادوغو وباماكو. تسعى إيران إلى سد الفراغ الذي خلفه انسحاب فرنسا من المنطقة، حيث تعرض مساعدة الجيش المالي في مواجهة الجهاديين من المسلمين السنة. تحاول القيادة الإيرانية إقناع المسؤولين الماليين بأنها شريك قوي في الصراع ضد الميليشيات التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، استنادًا إلى خبرتها في محاربة هذه التنظيمات في بلاد الشام.

ورغم الأبعاد الأيديولوجية للسياسة الخارجية الإيرانية في بوركينا فاسو ومالي وغيرها من الدول الإفريقية، يلعب الاقتصاد دورًا مهمًا في هذه العلاقات. في ظل العقوبات التي تقودها الولايات المتحدة ضد إيران، تتطلع طهران إلى الشرق والجنوب العالمي بحثًا عن طرق للالتفاف على العقوبات وتعزيز اقتصادها المتعثر. تعد بوركينا فاسو ومالي ودول أخرى في منطقة الساحل مستودعات هامة للذهب واليورانيوم والليثيوم وغيرها من الموارد الطبيعية القيمة. يمكن أن توفر الصفقات مع هذه الدول فرصًا للشركات الإيرانية لاستغلال هذه الثروات وتجاوز تأثير العقوبات. ومع ذلك، تظل هناك حدود لما يمكن أن تقدمه هذه الدول النامية لإيران. (13)

تركيا

في إطار استراتيجية أنقرة لتوسيع نفوذها في إفريقيا، شهدت تركيا تناميًا ملحوظًا في تأثيرها في كونفدرالية دول الساحل خلال السنوات الأخيرة. تسعى تركيا إلى تعزيز وجودها في المنطقة من خلال مزيج من القوة الناعمة، الاستثمارات الاقتصادية، والمساعدات التنموية، إلى جانب دور متزايد في المجالين العسكري والدبلوماسي. هذه التحركات تأتي كجزء من استراتيجية تركية أوسع لتعزيز نفوذها الإقليمي والدولي في ظل التنافس مع قوى عالمية مثل فرنسا، روسيا، والصين، التي لها مصالح طويلة الأمد في المنطقة.

وفي إطار تقارب تركيا مع دول الساحل، توجه وفد رفيع المستوى من الوزراء والمسؤولين الأتراك إلى النيجر، يوم الأربعاء الماضي،  لبحث سبل تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي، إضافة إلى مناقشة التطورات في منطقة الساحل والقضايا الإقليمية، بما في ذلك الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. وفي وقت سابق من هذا العام، قام رئيس وزراء النيجر، علي ماهامان لامين زين، بزيارة إلى تركيا، حيث تهدف زيارة الوزراء الأتراك إلى البناء على الاتفاقيات التي أبرمت خلال تلك الزيارة. تتمتع تركيا بحضور كبير في النيجر، سواء من خلال القطاعين العام أو الخاص، حيث تمتلك الشركات التركية استثمارات ومشاريع في مجالات الطاقة، الخدمات، والبناء. (13)

أوكرانيا

العلاقات الاقتصادية بين أوكرانيا ودول كونفدرالية الساحل تعتبر ضعيفة للغاية من حيث حجم التبادل التجاري. إلا أن العلاقات شهدت تطورات ملحوظة في 26 يوليو الماضي، حينما تعرضت قافلة تضم مرتزقة فاغنر الروس وجنودًا من الجيش المالي لهجوم من الانفصاليين في شمال مالي. في أعقاب الهجوم، تحدث أندريه يوسوف، الممثل الرسمي لجهاز المخابرات الأوكراني، والسفير الأوكراني في السنغال، يوري بيفوفاروف، عن دعم أوكرانيا لهذه العملية. ورغم أن كييف نفت تورطها في أي هجوم إرهابي ضد الجيش المالي، فإن بعض التقارير أشارت إلى احتمالية وجود علاقة بين أوكرانيا والأحداث في أزواد، دون وجود أدلة قاطعة تؤكد هذه المزاعم. (14)

ورغم تصريحات بعض المسؤولين الأوكرانيين التي أشارت إلى دعم بلادهم للأزمة هناك، فإن هذه الادعاءات لا تزال بحاجة إلى تحقق وتأكيد. وفي ظل هذه التطورات، قامت باماكو بقطع العلاقات الدبلوماسية مع كييف وطرد السفير الأوكراني من مالي، ما دفع بوركينا فاسو والنيجر إلى اتخاذ خطوة مماثلة، متهمة أوكرانيا بالتورط في دعم الجماعات الإرهابية في مالي. يُرجح أن هذه القرارات جاءت في إطار محاولة مغازلة أنصار المجلس العسكري في باماكو، خاصة في ظل الخسائر التي تكبدها الجيش في “معركة تينزواتين”. (15)

ختامًا، يمكننا القول أن النفوذ الأجنبي في كونفدرالية دول الساحل يعكس مدى تعقيد وتشابك المصالح الإقليمية والدولية في هذه المنطقة الاستراتيجية، كما تبرز السياسات الخارجية للدول الكبرى تنافسًا واضحًا على الموارد الطبيعية، والموقع الجغرافي، وأهمية المنطقة كمحور للأمن الدولي، وعلى صعيد أخر يتضح أن التدخلات الأجنبية، سواء كانت عبر المساعدات الاقتصادية أو التدخلات العسكرية، غالبًا ما تأتي بآثار مزدوجة: فقد تساهم في تحقيق الاستقرار من ناحية، لكنها قد تؤدي إلى خلق توترات جديدة وزيادة التبعية السياسية والاقتصادية من ناحية أخرى.

بناءً على ما ذُكر، يُرى أنه من الضروري أن تعمل دول الكونفدرالية على تحقيق توازن بين الاستفادة من الدعم الدولي وبين تعزيز استقلالها السياسي وتطوير استراتيجيات مستدامة للتنمية والأمن الذاتي. بالإضافة إلى تعزيز التعاون الإقليمي والاعتماد على الحلول المحلية وقد يكون أحد المفاتيح للحد من تأثير النفوذ الأجنبي، وتجنب الوقوع في صراعات النفوذ بين القوى الكبرى.

المراجع

3.5/5 - (2 صوتين)

المركز الديمقراطى العربى

المركز الديمقراطي العربي مؤسسة مستقلة تعمل فى اطار البحث العلمى والتحليلى فى القضايا الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، ويهدف بشكل اساسى الى دراسة القضايا العربية وانماط التفاعل بين الدول العربية حكومات وشعوبا ومنظمات غير حكومية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى