تحليل السياسة الخارجية الروسية
اعداد : محمد خالد باجري – اشراف : د. طلال ضاحي.
- المركز الديمقراطي العربي
الخلفية التاريخية لروسيا:
قد سبق وان تعرضت روسيا للغزو في مناسبات عدة على ايدي القوى الاوربية الناشئة واخذت تسعى بشكل متكرر لحماية نفسها من خلال فرض هيمنتها على الدول الواقعة على حدودها، ومن ثم كان غزو روسيا لأوكرانيا مجرد رد فعل استراتيجي طبيعي للزحف الغربي على أراض تعتبرها روسيا جزءا من ارضيها.
الإمبراطورية الروسية والاتحاد السوفييتي مثلت روسيا دورا حاسما في حرب السنوات السبع حيث كانت القوة البرية التي كسرت شوكة جيش نابليون وكانت عضوا بارزا في دول الوفاق الأوربي، كما انفردت روسيا بدور البطولة المطلقة بأحداث حرب القرم وما تلاها من أزمات نشأت فيما بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية في القرن التاسع عشر.
كما انه كان دور الاتحاد السوفييتي في الحرب العالمية الثانية دورا حاسما وبعد انتهاء تلك الحرب هيمنت موسكو على معظم أوروبا من خلال الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو.
لعل ابزر ما يثير اهتمامنا اليوم من السمات الفريدة من توعها في روسيا هو ما أشار اليه جورج كينان[1] في رسالته المعروف البرقية المطولة عام 1946 على انه ما لدى روسيا من شعور تقليدي وغريزي بعدم الامان فما تتسم به روسيا من حدود واسعة انما يخلق لها تحديا استراتيجيا طبيعيا الا وهو ان الامة لها العديد من الأعداء المحتلمين وانها قد سبق، وكانت غنيمة للمغيرين والغزاة، كما ذهب بول كيندي[2] الى أن الاتحاد السوفييتي قد طالب ابان حقبة الحرب الباردة بالامن المطلق على طول حدوده المترامية الا ان سياسته المتشددة تجاه المخاوف الأمنية لجيرانه قد اساءت الى علاقته مع أوروبا وشعوب الشرق الأوسط والصين واليابان وبدورها جعلت الروس يشعرون بانهم محاصرون واقل تمتعا بالأمان.
لقد كان التوسع الاستعماري هو السبيل الذي انتهجته روسيا للدفاع عن نفسها ضد الغزو، وروسيا لم تشارك على نطاق واسع في تقسيم افريقيا او الأمريكيتين او الشرق الاوسط او اسيا بل كانت عوضا عن ذلك تمدد من خلال ضم الا الأراضي المجاورة لها ويتم النظر الى تلك الأراضي على انها أراضي روسية.
وكان الباحثين المؤيدين بأعمال جورج كينان يؤكدون أن الشعور بعدم الأمان كان هو الدافع المحرك وراء النزعة التوسعية الروسية والسوفيتية معا كما ان هذا الشعور بعدم الأمان قد ساهم في ميل روسيا الى النظر الى البلدان الأخرى على انها تهديد محتمل بغض النظر عما اذا كان لتلك البلدان تحمل أي نوايا عدوانية ام لا بل وحتى في بعض الأحيان يوصفون الموقف المشتد انه موقف دفاعي الى حد كبير.
وجهات النظر للسياسة الخاريجة الروسية منذ الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي
اتسمت العلاقة مع الغرب بالتناقض ففي ظل العلاقات الاقتصادية والثقافية قوية تنمو في ظل حالة انعدام انعدام الثقة في المجال الأمني، وقد زاد انهيار الاتحاد السوفييتي من شعور روسيا بعدم الأمان، وكنتيجة
كان الكثير من أنماط اقوال وتصرفات روسيا منذ تفكك الاتحاد السوفييتي يعكس اقوالها وتصرفاتها التي تعود الى الماضي الامبريالي والسوفييتي.
جاهرت التصريحات الرسمية الروسية بعد وجود أعداء لها وذلك منذ اعداد المسودة الأولى للعقائد العسكرية لموسكو عام 1992م، وقد وقعت روسيا على اتفاق هيكلي بشأن العلاقات بين الناتو وروسيا في عام 1997، كما وقعت روسيا اتفاق شراكة في تأسيس مجلس الناتو روسيا عام 2002 كما وقعت روسيا على اتفاق شراكة وتعاون مع الاتحاد الأوروبي عام 1994 وبدأت في التفاوض في شراكة اكثر شمولا عام 2008.
حينما كانت روسيا تسعى لبناء علاقات متينة مع الغرب بنفس الوقت كانت تشير الى من الولايات المتحدة وحلف الناتو وتوسعه الى ما كان يمثل دائرة النفوذ السوفييتي السابق على مدار العقد اللاحق انما كان يقابله وثائق وتصريحات منشورة على لسان المسؤولين الروس كانت تصف حلف الناتو في الكثير من الأحيان بأنه حلف معادي وخطير ولا يمكن الثقة به، كما زعموا ان حلف الناتو قد عمل على زعزعة استقرار الحكومات والتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى؟
وكان ينظر الى الحلف الناتو الى انه تهديد خطير وأن تعزيز الديمقراطية على انه عمل معادي لروسيا، رغم ذلك فان تلك المخاوف لم تؤدي الى تباطؤ نمو التجارة الروسية مع الاتحاد الأوروبي او السياحة الروسية الى البلدان الأوربية الغربية.
ونتيجة لذلك كانت روسيا تنظر الى محاولات الغرب لدمجها بشكل وثيق في المؤسسات السياسية والأمنية الأوروبية على أفضل الأحوال على انها محاولات غير مريحة وعلى أسوأ الأحوال على انها جهود معادية تسعى الى تكبيلها والحد من قوتها.
“وهذا يعني ان تاريخ روسيا بالشعور بعدم الأمان وميلها للهيمنة على محيطها الجارور انما يمثلان خلفية أساسية لفهم السياسة الخراجية لروسيا لمعاصرة وكذلك ما يمكن في رؤوس بعض صناع القرار الروس على الأقل الا ان هذا ليس بكافي لشرح قرار روسيا باستخدام القوة في أوكرانيا واستعداداها للمخاطرة بتدمير عقدين كاملين من التعاون مع الدول الغربية ولهذا يتعين علينا النظر في عوامل أخرى.”
دور الاقتصاد الروسي في السياسة الخارجية الروسية
في ظل حكم الرئيس بوتين كان النمو الاقتصادي الذي شهدته روسيا في الآونة الأخيرة بمثابة دعامة هامة لتكايدها الجديد لذاتها، ومن المنظور السياسي الاقتصادي فان النظام رأسمالية المحاباة الي انغمس في الرئيس بوتين وحلفاؤه لم يفعل شيئا للحد من شعور روسيا بأن لها الحق في الهيمنة على محيطها المجاور.
والارتفاعات في أسعار روسيا من النفط والغاز الطبيعي قد شكلت دفعة حاسمة الأهمية للنمو، وقد وفرت إيرادات تلك الصادرات للحكومة الروسية موارد كبيرة وحرية تصرف أكبر.
النمو من خلال الاندماج
لقد شهدت فترات حكم الرئيس بتوين كرئيس للدولة دفعه للبلاد الى مصاف الدول ذات الدخل المتوسط المرتفع، ولقد كان النمو الاقتصادي الى جانب الاستقرار السياسي والاجتماعي عاملا أساسيا في ارتفاع شعبية الرئيس بوتين حيث شهدت الطبقة المتوسطة نموا ملحوظه.
من الناحية التاريخية كانت السياسة الاقتصادية الخارجية لروسيا تركز على خلق ظروف مواتية لروسيا في الاقتصاد العالمي، جزئيا من خلال ضمان حصول روسيا على مقعد لها في مختلف المحافل الدولية.
والقادة الروسين كانوا يرون في هذه المنظمات الدولية مكانا يحققون من خلاله مصالح روسيا الاقتصادية فهم كانوا يرون أيضا ان العضوية في مثل هذه المنظمات الدولية انما تؤكد على الدور الذي تلعبه روسيا في النظام العالمي.
ان الشريك الاقتصادي الأهم لروسبا حتى الان هو الاتحاد الأوروبي، ففي عام 2012 اشترى الاتحاد الأوربي 52% من جميع صادرات روسيا بينما يمثل ما نسبته 42% من ورادتها.
وكان القسط الأكبر من النمو الإنتاجي السريع في روسيا في فترة 1998 و2008 ينبع من الاستثمار الأجنبي المباشر من طرف تلك الشركات الأوروبية.
وفيما قبل تفعيل معاهدة لشبونة في الأول من الكانون الأول 2009 كانت روسيا قادرة على ابرام اتفاقيات تجارة ثنائية مع الحكومات الوطنية المنفردة داخل الاتحاد الأوروبي.
ولكن بعد تفعيل المعاهدة صار من اللازم التعامل مع معظم القضايا الاقتصادية الخارجية من خلال المفوضية الأوروبية.
العلاقات الاقتصادية مع دول الجوار
لم تكن دول الجوار الروسي مصدرا هاما للاستثمارات الأجنبية بالنسبة لروسية، على الرغم من أن الشركات لروسيا غالبا ما كانت تمثل مستثمرين مهمين في تلك الدول.
ومن المثير للدهشة انه لم يكن هناك سوى نقاش محدود من قبل الأكاديميين الروس أو صناع القرار الروس حول الاثار الاقتصادية المحتملة للاتحاد الجمركي على النظم الاقتصادية لكل من روسيا والدول الأعضاء الأخرى.
اما مبادرة روسيا لأنشاء الاتحاد الجمركي الاوراسي لم ينجح بالفعل، فهناك تكاليف عدة فالاتحاد جعل من الصعب على الدول الأعضاء به ان توقع اتفاقيات مع الاتحاد الأوروبي دون موافقة روسيا، وهذا يعني أن الدول الأعضاء سوف تضطر الى التخلي عن فرصة كبيرة لتحسين علاقتها مع بلدان الاتحاد الأوروبي.
وكانت الية الاتحاد الجمركي من كونه يهدف من الحد من نفوذ الاتحاد الأوروبي أكثر مما تهدف الى تعزيز النظم الاقتصادية سواء لروسيا او لجيرانها.
كذلك سعت روسيا الى استخدام الحوافز الاقتصادية لتحقيق أهدافها السياسية في مواجهة جيرانها لا سيما أوكرانيا، ففي سنوات عديدة كانت روسيا تزود جيرنها بالغاز الطبيعي وبالنفط الخام، وذلك بأسعار اقل مما من العملاء في الاتحاد الأوروبي، وكان ينظر الى تلك المبيعات التفضيلية انه تدعم النظم الاقتصادية لهذه البلدان خلال الأوقات الصعبة، وكانت وسيلة لاستمالة النخب السياسية، إضافة لإتاحة الفرصة لبيع الغاز الطبيعي الروسي المنخفض السعر بأسعار أعلى للدول الاعصاء في الاتحاد الأوروبي، محتفظين لأنفسهم بالفارق، ومن جهة أخرى حين كانت بلدان مثل أوكرانيا وجورجيا تنتهج سياسات تثير غضب روسيا كانت الأخيرة تعاقبهم بأن ترفع الأسعار الى مستويات اعلى من تلك التي تدفعها دول أوروبا الغربية لها.
السياسة الحمائية الروسية باعتبارها ثقل موازن للاندماج الاقتصادي
على مدار العقدين الاخيرين من الزمن على تحرير الاقتصاد ودمجه في الاسواق العالمية عمد الرئيس بوتين والعديد من المسؤولين الروس بوضع العديد من الخطط لخلق شركات حكومية رائدة في مجال النفط والغاز.
دور النخبة والرأي العام في السياسة الخارجية الروسية
هل النخبة مهمه؟
عمل الرئيس بوتين على تعزيز قوته بمواجهة البرلمان جاعلا منه وبشكل متزايد هيئة شكلية تحت سيطرته يمكن شراء ولائها بمختلف امتيازات الرعاية وتم استبدال حكام الولايات المنتخبين بنواب معينون
ايضا مع وجود الوزارات السيادية (مثل تلك التي تمتلك اسلحة الداخلية والدفاع والمخابرات) انما تمارس نفوذا كبيرا داخل ادارة الرئيس بوتين وغالبا ما يتم النظر الى جهاز المخابرات الذي مارس فيه الرئيس بوتين حياته المهنية على انه ذو اهمية خاصة.
اما الكنيسة الارثوذكسية الروسية فقد استفادت من علاقتها المتنامية مع الرئيس بوتين حيث يتم استخدام الكنسية وتعالميها كنقطة مرجعية للأيديولوجية الجديدة لروسيا والمبنية على القيم المحافظة لمواجهة ليبرالية الغرب، اما السياسة الداخلية فيمكن القول بان الكنسية قد كان لها دور في النهج الصحة والتعليم، وتظل الكنسية مجرد وسيلة تستخدمها الدولة في تبرير سياستها الخارجية.
تشكيل الراي العام
عوضا من التكيف مع الرأي العام بذل الكرملين جهودا كبيرة لتشكيل هذا الرأي العام لضمان استمرار الدعم الشعبي لسياسته في الداخل والخارج.
وقد انطوى في فترة الرئيس بوتين على بدل جهود منسقة لنزع الشرعية عن المعارضة وزيادة القيود على حرية الصحافة وتعزيز القيم الروسية المحافظة لتكون بمثابة ترياق مضاد لليبرالية الغربية.
كان هناك وجود لاستراتيجية منظمة لوصف المعارضين لسياسات الحكومة على انهم مدعومين من الخارج ولا سيما من الولايات المتحدة الامريكية، والصحافة الروسية الرئيسية هي صحافة مملوكة للدولة.
كان من التمسك من التقاليد والكنيسة الارثوذكسية الروسية والقيم الاسرية من بين الموضوعات الاساسية الاخرى التي ساعدت لتوجيه الرأي العام الروسي.
دوافع الرئيس بوتين واختياراته
في ظل للمركزية الشديدة للسياسة الخارجية الروسية فان السياسة تجاة اوكرانيا هي ببساطة نتيجة لأفضليات ومناهج للرئيس بوتين نفسه، و رؤية سياسية واقعية صارمة تعتمد على حالة اللاربح واللاخسارة في رؤيته للعالم تتخل كل تعاملاته مع الغرب.
واغلب الروس يعزون اليه بالفضل في النمو الاقتصادي الدي كانت تتمتع بع روسيا في مطلع القرن الحادي والعشرين وكذلك تزايد نفوذ موسكو على الساحة العالمية.
والرئيس بوتين لا يتوانى عن استخدام لغة قوية ولديه عنفوان شديد يتجلى في مشاركته في بطولات الجودو ووضع العلامات على النمور البرية وامتطاء للخيول وهو عاري الصدر وهذي الجاذبية لمعايير الرجولة المحافظة ولقوة الجسم والعزيمة على السواء انما تنعكس في صلب السياسات الخارجية والداخلية على السواء.
ومن الناحية الاخرى فان نصوص التاريخ ومفهوم روسيا باعتبارها حائط الصد التقليدي المحافظ ضد الليبرالية الغربية هي امور ترتبط بالرئيس بوتين يقدم نفسه كأحد مرتادي الكنيسة وكانت الكنيسة الأرثوذكسية داعم كبير لحكمه.
وفي هذا السياق فان الرئيس بوتين لا يمثل فقط صانع قرار وتجسيد حي للسياسات الروسية بل ايضا تجسيد لكفرة الدولة، وينادي بمركزية الدولة ويرى الدولة لها أهمية حاسمة وأنها تلعب دورا رائدا لتوجيه المجتمع.
والدولة التي لا تستطيع السيطرة على مواطنيها، هي دولة قد يثور ضدها مواطنيها وهي بالقطع ليست بالدولة القوية ولن تكتب لها النجاح او البقاء.
ماذا يمكن وراء تصرفات روسيا في اوكرانيا
لا يبدو ان الدافع الاكبر وراء تصرفات روسيا كان مخاوفها من اتفاقية انضمام اوكرانيا للاتحاد الاوروبي التي كانت باهظة التكلفة على الاقتصاد الروسي، ولكن نجد ان السياسة الخارجية الروسية في جوهرها لها جذور متأصلة تتمثل في معتقداتها القديمة بشأن حقوقها في منطقتها وهي ترى ان محاولات الغرب للاندماج ماهي الا الية للسيطرة على روسيا.
وتنظر روسيا بشكل عام والرئيس بوتين بشكل خاص الى اوكرانيا على انها بلا شك تدور في الفلك الاستراتيجي لموسكو وليس للاتحاد الأوروبي.
ولقد كان لنمط زعامة الرئيس بوتين وآرائه الشخصية على الارجح اهمية حاسمة في الاجراءات النوعية ضد أوكرانيا.
ومن المرجح ان تظل الحكومات الروسية في المستقبل مصابة بجنون الارتياب حيال النوايا الغربية سواء داخل روسيا نفسها او على حدوها الخارجية.
لكن ما الذي يمكن ان يغير حسابات روسيا بشأن أوكرانيا؟
بنهاية المطاف فان التكاليف المالية والعسكرية لاحتلال جزء من اوكرانيا سيكون لها اضرار جسيمه، واذا لم تتراجع روسيا فإنها هي وأوكرانيا سوف تعانيان من تكاليف باهضه ومن المزيد من الخسائر الاقتصادية والبشرية.
ويجب ان تدرك ان الاحتلال للمطول لجار معاد لها سواء اكان اوكرانيا او من شانه ان يتحول الي امر بشع للغاية.
المراجع:
أوليسا تكاشيفا، كيث كرين، كريستوفر تشيفيش، أولجا اوليكر، و سكوت بوسطن . (بلا تاريخ). السياسة الخارجية الروسين بين السياقين التاريخي والحالي.
[1] (ولد 16 فبراير 1904 – مات 17 مارس 2005) كانَ ولسنوات عضواً في قسم الشؤون الخارجية للولايات المتحدة. وكمُخططٍ للسياسات الخارجية في آواخر الأربعينيات والخمسينيات، ولقد أُعتبر “مهندسَ” الحرب الباردة بدعوته للاحتواء الاتحاد السوفيتي..
[2] هو جيوسياسي ، وأستاذ جامعي، ومؤرخ بريطاني، هو عضوٌ في الأكاديمية البريطانية، والأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم.